الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* قَالَ أَنَسٌ فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا الشرح: قوله: (باب متى يسجد من خلف الإمام) أي إذا اعتدل أو جلس بين السجدتين. قوله: (وقال أنس) هو طرف من حديثه الماضي في الباب قبله، لكن في بعض طرقه دون بعض، وسيأتي في " باب إيجاب التكبير " من رواية الليث عن الزهري بلفظه، ومناسبته لحديث الباب مما قدمناه أنه يقتضي تقديم ما يسمى ركوعا من الإمام بناء على تقدم الشرط على الجزاء وحديث الباب يفسره. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ نَحْوَهُ بِهَذَا الشرح: قوله: (عن سفيان) هو الثوري، وأبو إسحاق هو السبيعي، وعبد الله بن يزيد هو الخطمي، كذا وقع منسوبا عند الإسماعيلي في رواية لشعبة عن أبي إسحاق، وهو منسوب إلى خطمة بفتح المعجمة وإسكان الطاء بطن من الأوس، وكان عبد الله المذكور أميرا على الكوفة في زمن ابن الزبير، ووقع للمصنف في " باب رفع البصر في الصلاة " أن أبا إسحاق قال " سمعت عبد الله بن يزيد يخطب"، وأبو إسحاق معروف بالرواية عن البراء بن عازب لكنه سمع هذا عنه بواسطة. وفيه لطيفة وهي رواية صحابي ابن صحابي عن صحابي ابن صحابي من الأنصار ثم من الأوس وكلاهما سكن الكوفة. قوله: (وهو غير كذوب) الظاهر أنه من كلام عبد الله بن يزيد وعلى ذلك جرى الحميدي في جمعه وصاحب العمدة، لكن روى عباس الدوري في تاريخه عن يحيى بن معين أنه قال: قوله " هو غير كذوب " إنما يريد عبد الله بن يزيد الراوي عن البراء لا البراء. ولا يقال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كذوب، يعني أن هذه العبارة إنما تحسن في مشكوك في عدالته والصحابة كلهم عدول لا يحتاجون إلى تزكية. وقد تعقبه الخطابي فقال: هذا القول لا يوجب تهمة في الراوي إنما يوجب حقيقة الصدق له، قال: وهذه عادتهم إذا أرادوا تأكيد العلم بالراوي والعمل بما روى، كان أبو هريرة يقول " سمعت خليلي الصادق المصدوق". وقال ابن مسعود " حدثني الصادق المصدوق " وقال عياض وتبعه النووي: لا وصم في هذا على الصحابة لأنه لم يرد به التعديل، وإنما أراد به تقوية الحديث إذ حدث به البراء وهو غير متهم، ومثل هذا قول أبي مسلم الخولاني: حدثني الحبيب الأمين. وقد قال ابن مسعود وأبو هريرة فذكرهما. قال: وهذا قالوه تنبيها على صحة الحديث لا أن قائله قصد به تعديل راويه. وأيضا فتنزيه ابن معين للبراء عن التعديل لأجل صحبته ولم ينزه عن ذلك عبد الله بن يزيد لا وجه له، فإن عبد الله بن يزيد معدود في الصحابة. انتهى كلامه. وقد علمت أنه أخذ كلام الخطابي فبسطه واستدرك عليه الإلزام الأخير، وليس بوارد لأن يحيى بن معين لا يثبت صحبة عبد الله بن يزيد، وقد نفاها أيضا مصعب الزبيري وتوقف فيها أحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو داود وأثبتها ابن البرقي والدار قطني وآخرون. وقال النووي: معنى الكلام حدثني البراء وهو غير متهم كما علمتم فثقوا بما أخبركم به عنه، وقد اعترض بعض المتأخرين على التنظير المذكور فقال: كأنه لم يلم بشيء من علم البيان، للفرق الواضح بين قولنا فلان صدوق وفلان غير كذوب لأن في الأول إثبات الصفة للموصوف، وفي الثاني نفي ضدها عنه فهما مفترقان. قال: والسر فيه أن نفي الضد كأنه يقع جوابا لمن أثبته يخالف إثبات الصفة. انتهى. والذي يظهر لي أن الفرق بينهما أنه يقع في الإثبات بالمطابقة وفي النفي بالالتزام، لكن التنظير صحيح بالنسبة إلى المعنى المراد باللفظين، لأن كلا منهما يرد عليه أنه تزكية في حق مقطوع بتزكيته فيكون من تحصيل الحاصل، ويحصل الانفصال عن ذلك بما تقدم من أن المراد بكل منهما تفخيم الأمر وتقويته في نفس السامع. وذكر ابن دقيق العيد أن بعضهم استدل على أنه كلام عبد الله بن يزيد بقول أبي إسحاق في بعض طرقه: سمعت عبد الله بن يزيد وهو يخطب يقول " حدثنا البراء وكان غير كذوب " قال وهو محتمل أيضا. قلت: لكنه أبعد من الأول. وقد وجدت الحديث من غير طريق أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد وفيه قوله أيضا " حدثنا البراء وهو غير كذوب " أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق محارب بن دثار قال: سمعت عبد الله بن يزيد على المنير يقول. فذكره. وأصله في مسلم، لكن ليس فيه قوله " وكان غير كذوب " وهذا يقوى أن الكلام لعبد الله ابن يزيد، والله أعلم. (فائدة) : روى الطبراني في مسند عبد الله بن يزيد هذا شيئا يدل على سبب روايته لهذا الحديث، فإنه أخرج من طريقه أنه كان يصلي بالناس بالكوفة فكان الناس يضعون رءوسهم قبل أن يضع رأسه ويرفعون قبل أن يرفع رأسه، فذكر الحديث في إنكاره عليهم. قوله: (إذا قال سمع الله لمن حمده) في رواية شعبة " إذا رفع رأسه من الركوع " ولمسلم من رواية محارب بن دثار " فإذا رفع رأسه من الركوع فقال سمع الله لمن حمده لم نزل قياما". قوله: (لم يحن) بفتح التحتانية وسكون المهملة أي لم يثن، يقال حنيت العود إذا ثنيته. وفي رواية لمسلم " لا يحنو " وهي لغة صحيحة يقال حنيت وحنوت بمعنى. قوله: (حتى يقع ساجدا) في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق " حتى يضع جبهته على الأرض " وسيأتي في " باب سجود السهو"، ونحوه لمسلم من رواية زهير عن أبي إسحق، ولأحمد عن غندر عن شعبة " حتى يسجد ثم يسجدون " واستدل به ابن الجوزي على أن المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الإمام، وتعقب بأنه ليس فيه إلا التأخر حتى يتلبس الإمام بالركن الذي ينتقل إليه بحيث يشرع المأموم بعد شروعه وقبل الفراغ منه. ووقع في حديث عمرو بن حريث عند مسلم " فكان لا يحنى أحد منا ظهره حتى يستتم ساجدا " ولأبي يعلى من حديث أنس " حتى يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من السجود " وهو أوضح في انتفاء المقارنة. واستدل به على الطمأنينة وفيه نظر، وعلى جواز النظر إلى الإمام لاتباعه في انتقالاته. قوله: (حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان. نحوه) هكذا في رواية المستملى وكريمة، وسقط للباقين. وقد أخرجه أبو عوانة عن الصغاني وغيره عن أبي نعيم ولفظه " كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته". *3* الشرح: قوله: (باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام) أي من السجود كما سيأتي بيانه. الحديث: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ أَوْ لَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ الشرح: قوله: (عن محمد بن زياد) هو الجمحي مدني سكن البصرة وله في البخاري أحاديث عن أبي هريرة، وفي التابعين أيضا محمد بن زياد الالهاني الحمصي وله عنده حديث واحد عن أبي أمامة في المزارعة. قوله: (أما يخشى أحدكم) في رواية الكشميهني " أو لا يخشى " ولأبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة " أما يخشى أو ألا يخشى " بالشك. و " أما " بتخفيف الميم حرف استفتاح مثل ألا، وأصلها النافية دخلت عليها همزة الاستفهام وهو هنا استفهام توبيخ. قوله: (إذا رفع رأسه قبل الإمام) زاد ابن خزيمة من رواية حماد بن زيد عن محمد بن زياد " في صلاته". وفي رواية حفص بن عمر المذكورة " الذي يرفع رأسه والإمام ساجد " فتبين أن المراد الرفع من السجود ففيه تعقب على من قال إن الحديث نص في المنع من تقدم المأموم على الإمام في الرفع من الركوع والسجود معا، وإنما هو نص في السجود، ويلتحق به الركوع لكونه في معناه، ويمكن أن يفرق بينهما بأن السجود له مزيد مزية لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه لأنه غاية الخضوع المطلوب منه، فلذلك خص بالتنصيص عليه، ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية، وأما التقدم على الإمام في الخفض في الركوع والسجود فقيل يلتحق به من باب الأولى، لأن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل، والركوع والسجود من المقاصد، وإذا دل الدليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة فأولى أن يجب فيما هو مقصد، ويمكن أن يقال ليس هذا بواضح لأن الرفع من الركوع والسجود يستلزم قطعه عن غاية كماله، ودخول النقص في المقاصد أشد من دخوله في الوسائل، وقد ورد الزجر عن الخفض والرفع قبل الإمام في حديث آخر أخرجه البزار من رواية مليح صلى الله عليه وسلم بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة مرفوعا " الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان". وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفا وهو المحفوظ. قوله: (أو يجعل الله صورته صورة حمار) الشك من شعبة، فقد رواه الطيالسي عن حماد بن سلمة وابن خزيمة من رواية حماد بن زيد ومسلم من رواية يونس بن عبيد والربيع بن مسلم كلهم عن محمد بن زياد بغير تردد، فأما الحمادان فقالا " رأس " وأما. يونس فقال " صورة " وأما الربيع فقال " وجه"، والظاهر أنه من تصرف الرواة. قال عياض: هذه الروايات متفقة لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. قلت: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضا، وأما الرأس فرواتها أكثر وهي أشمل فهي المعتمدة، وخص وقوع الوعيد عليها لأن بها وقعت الجناية وهي أشمل، وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته، وعن ابن عمر تبطل وبه قال أحمد في رواية وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد، وفي المغني عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرجى له الثواب ولم يخش عليه العقاب. واختلف في معنى الوعيد المذكور فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي، فإن الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام، ويرجح هذا المجازى أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين، لكن ليس في الحديث ما يدل أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك وكون فعله ممكنا لأن يقع عنه ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء، قاله ابن دقيق العيد. وقال ابن بزيزة: يحتمل أن يراد بالتحويل المسخ أو تحويل الهيئة الحسية أو المعنوية أو هما معا. وحمله آخرون على ظاهره إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك، وسيأتي في كتاب الأشربة الدليل على جواز وقوع المسخ في هذه الأمة، وهو حديث أبي مالك الأشعري في المغازي فإن فيه ذكر الخسف وفي آخره " ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " وسيأتي مزيد لذلك في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى. ويقوى حمله على ظاهره أن في رواية ابن حبان من وجه آخر عن محمد بن زياد " أن يحول الله رأسه رأس كلب " فهذا يبعد المجاز لانتقاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار. ومما يبعده أيضا إيراد الوعيد بالأمر المستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلا فرأسه رأس حمار، وإنما قلت ذلك لأن الصفة المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور فلا يحسن أن يقال له يخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليدا، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة. وقال ابن الجوزي في الرواية التي عبر فيها بالصورة: هذه اللفظة تمنع تأويل من قال المراد رأس حمار في البلادة، ولم يبين وجه المنع. وفي الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، واستدل به على جواز المقارنة، ولا دلالة فيه لأنه دل بمنطوقه على منع المسابقة، وبمفهومه على طلب المتابعة، وأما المقارنة فمسكوت عنها. وقال ابن بزيزة: استدل بظاهره قوم لا يعقلون على جواز التناسخ. قلت: وهو مذهب رديء مبني على دعاوى بغير برهان، والذي استدل بذلك منهم إنما استدل بأصل النسخ لا بخصوص هذا الحديث. (لطيفة) : قال صاحب " القبس ": ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أن يستحضر أنه لا يسلم قبل الإمام فلا يستعجل في هذه الأفعال، والله أعلم. *3* وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنْ الْمُصْحَفِ وَوَلَدِ الْبَغِيِّ وَالْأَعْرَابِيِّ وَالْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ الشرح: قوله: (باب إمامة العبد والمولى) أي العتيق، قال الزين بن المنير: لم يفصح بالجواز لكن لوح به لإيراده أدلته. قوله: (وكانت عائشة الخ) وصله أبو داود صلى الله عليه وسلم في " كتاب المصاحف " من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة أن عائشة كان يؤمها غلامها ذكوان في المصحف، ووصله ابن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبي بكر بن أبي مليكة عن عائشة أنها أعتقت غلاما لها عن دبر، فكان يؤمها في رمضان في المصحف. ووصله الشافعي وعبد الرزاق من طريق أخرى عن ابن أبي مليكة أنه كان يأتي عائشة بأعلى الوادي - هو وأبوه وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير - فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة وهو يومئذ غلام لم يعتق، وأبو عمرو المذكور هو ذكوان، وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور. وخالف مالك فقال: لا يؤم الأحرار إلا إن كان قارئا وهم لا يقرءون فيؤمهم، إلا في الجمعة لأنها لا تجب عليه. وخالفه أشهب واحتج بأنها تجزئه إذا حضرها. قوله: (في المصحف) استدل به على جواز قراءة المصلي من المصحف، ومنع منه آخرون لكونه عملا كثيرا في الصلاة صلى الله عليه وسلم. قوله: (وولد البغي) بفتح الموحدة وكسر المعجمة والتشديد أي الزانية، ونقل ابن التين أنه رواه بفتح الموحدة وسكون المعجمة والتخفيف، والأول أولى، وهو معطوف على قوله " والمولى " لكن فصل بين المتعاطفين بأثر عائشة، وغفل القرطبي في مختصر البخاري فجعله من بقية الأثر المذكور، وإلى صحة إمامة ولد الزنا ذهب الجمهور أيضا، وكان مالك يكره أن يتخذ إماما راتبا، وعلته عنده أنه يصير معرضا لكلام الناس فيأثمون بسببه، وقيل لأنه ليس في الغالب من يفقهه صلى الله عليه وسلم فيغلب عليه الجهل. قوله: (والأعرابي) بفتح الهمزة أي ساكن البادية، وإلى صحة إمامته ذهب الجمهور أيضا، وخالف مالك وعلته عنده غلبة الجهل على ساكن البوادي، وقيل لأنهم يديمون نقص السنن وترك حضور الجماعة غالبا قوله: (والغلام الذي لم يحتلم) ظاهره أنه أراد المراهق، ويحتمل الأعم لكن يخرج منه من كان دون سن التمييز بدليل آخر، ولعل المصنف راعى اللفظ الوارد في النهي عن ذلك وهو فيما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس مرفوعا " لا يؤم الغلام حتى يحتلم " وإسناده ضعيف، وقد أخرج المصنف في غزوة الفتح حديث عمرو بن سلمة بكسر اللام أنه كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين، وقيل إنما لم يستدل به هنا لأن أحمد بن حنبل توقف فيه فقيل: لأنه ليس فيه اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقيل لاحتمال أن يكون أراد أنه كان يؤمهم في النافلة دون الفريضة، وأجيب عن الأول بأن زمان نزول الوحي لا يقع فيه لأحد من الصحابة التقرير على ما لا يجوز فعله، ولهذا استدل أبو سعيد وجابر على جواز العزل بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل كما سيأتي في موضعه، وأيضا فالوفد الذين قدموا عمرو بن سلمة كانوا جماعة من الصحابة، وقد نقل ابن حزم أنه لا يعلم لهم في ذلك مخالف منهم. وعن الثاني بأن سياق رواية المصنف تدل على أنه كان يؤمهم في الفرائض لقوله فيه " صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة " الحديث. وفي رواية لأبي داود قال عمرو " فما شهدت مشهدا في جرم صلى الله عليه وسلم إلا كنت إمامهم " وهذا يعم الفرائض والنوافل واحتج ابن حزم على عدم الصحة بأنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يؤمهم أقرؤهم قال: فعلى هذا إنما يؤم من يتوجه إليه الأمر، والصبي ليس بمأمور لأن القلم رفع عنه فلا يؤم، كذا قال، ولا يخفى فساده لأنا نقول: المأمور من يتوجه إليه الأمر من البالغين بأنهم يقدمون من اتصف بكونه أكثر قرآنا فبطل ما احتج به، وإلى صحة إمامة الصبي ذهب أيضا الحسن البصري والشافعي وإسحاق، وكرهها مالك والثوري، وعن أبي حنيفة وأحمد روايتان والمشهور عنهما الإجزاء في النوافل دون الفرائض. قوله: (لقول النبي صلى الله عليه وسلم يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله) أي فكل من اتصف بذلك جازت إمامته من عبد وصبي وغيرها، وهذا طرف من حديث أبي مسعود الذي ذكرناه في " باب أهل العلم أحق بالإمامة " وقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن بلفظ " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " الحديث. وفي حديث عمرو بن سلمة المذكور عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وليؤمكم أكثركم قرآنا " وفي حديث أبي سعيد عند مسلم أيضا " إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم " واستدل بقوله أقرؤهم على أن إمامة الكافر لا تصح لأنه لا قراءة له. قوله: (ولا يمنع العبد من الجماعة) هذا من كلام المصنف، وليس من الحديث المعلق. قوله: (بغير علة) أي بغير ضرورة لسيده، فلو قصد تفويت الفضيلة عليه بغير ضرورة لم يكن له ذلك، وسنذكر مستنده في الكلام على قصة سالم في أول حديثى الباب. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ الْعُصْبَةَ مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا الشرح: قوله: (عن عبيد الله) هو العمري. قوله: (لما قدم المهاجرون الأولون) أي من مكة إلى المدينة وبه صرح في رواية الطبراني. قوله: (العصبة) بالنصب على الظرفية لقوله " قدم " كذا في جميع الروايات. وفي رواية أبي داود " نزلوا العصبة " أي المكان المسمى بذلك وهو بإسكان الصاد المهملة بعدها موحدة، واختلف في أوله فقيل بالفتح وقيل بالضم، ثم رأيت في النهاية ضبطه بعضهم بفتح العين والصاد المهملتين، قال أبو عبيد البكري: لم يضبطه الأصيلي في روايته، والمعروف " المعصب " بوزن محمد بالتشديد وهو موضع بقباء. قوله: (وكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة) زاد في الأحكام من رواية ابن جريج عن نافع " وفيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة - أي ابن عبد الأسد - وزيد أي ابن حارثة وعامر بن ربيعة " واستشكل ذكر أبي بكر فيهم إذ في الحديث أن ذلك كان قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر كان رفيقه، ووجهه البيهقي باحتمال أن يكون سالم المذكور استمر على الصلاة بهم فيصح ذكر أبي بكر، ولا يخفى ما فيه. ووجه الدلالة منه إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقديم سالم عليهم، وكان سالم المذكور مولى امرأة من الأنصار فأعتقته، وكأن إمامته بهم كانت قبل أن يعتق، وبذلك تظهر مناسبة قول المصنف " ولا يمنع العبد". وإنما قيل له مولى أبي حذيفة لأنه لازم أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بعد أن عتق فتبناه، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه كما سيأتي في موضعه. واستشهد سالم باليمامة في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما. قوله: (وكان أكثرهم قرآنا) إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه. وفي رواية للطبراني " لأنه كان أكثرهم قرآنا". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو القطان. قوله: (اسمعوا وأطيعوا) أي فيما فيه طاعة لله. قوله: (وإن استعمل) أي جعل عاملا، وللمصنف في الأحكام عن مسدد عن يحيى " وإن استعمل عليكم عبد حبشي " وهو أصرح في مقصود الترجمة، وذكره بعد باب من طريق غندر عن شعبة بلفظ " قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: اسمع وأطع " الحديث، وقد أخرجه مسلم من طريق غندر أيضا لكن بإسناد له آخر عن شعبة عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال " إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني أن اسمع وأطع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف". وأخرجه الحاكم والبيهقي من هذا الوجه، وفيه قصة أن أبا ذر انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة فإذا عبد يؤمهم، قال فقيل: هذا أبو ذر، فذهب يتأخر، فقال أبو ذر: " أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم " فذكر الحديث. وأخرج مسلم أيضا من طريق غندر أيضا عن شعبة عن يحيى بن الحصين سمعت جدتي تحدث أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول " ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله " وفي هذه الرواية فائدتان: تعيين جهة الطاعة، وتاريخ الحديث وأنه كان في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (كأن رأسه زبيبة) قيل شبهه بذلك لصغر رأسه، وذلك معروف في الحبشة، وقيل لسواده، وقيل لقصر شعر رأسه وتفلفله. ووجه الدلالة منه على صحة إمامة العبد أنه إذا أمر بطاعته فقد أمر بالصلاة خلفه قاله ابن بطال. ويحتمل أن يكون مأخوذا من جهة ما جرت به عادتهم أن الأمير هو الذي يتولى الإمامة بنفسه أو نائبه، واستدل به على المنع من القيام على السلاطين وإن جاروا لأن القيام عليهم يفضي غالبا إلى أشد مما ينكر عليهم، ووجه الدلالة منه أنه أمر بطاعة العبد الحبشي والإمامة العظمى إنما تكون بالاستحقاق في قريش فيكون غيرهم متغلبا، فإذا أمر بطاعته استلزم النهي عن مخالفته والقيام عليه. ورده ابن الجوزي بأن المراد بالعامل هنا من يستعمله الإمام لا من يلي الإمامة العظمى، وبأن المراد بالطاعة الطاعة فيما وافق الحق. انتهى. ولا مانع من حمله على أعم من ذلك، فقد وجد من ولى الإمامة العظمى من غير قريش من ذوى الشوكة متغلبا، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الأحكام. وقد عكسه بعضهم فاستدل به على جواز الإمامة في غير قريش، وهو متعقب، إذ لا تلازم بين الإجزاء والجواز، والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه) يشير بذلك إلى حديث عقبة بن عامر وغيره كما سيأتي. الحديث: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ الشرح: قوله: (حدثنا الفضل بن سهل) هو البغدادي المعروف بالأعرج من صغار شيوخ البخاري ومات قبله بسنة. قوله: (يصلون) أي الأئمة، واللام في قوله " لكلم " للتعليل. قوله: (فإن أصابوا فلكم) أي ثواب صلاتكم، زاد أحمد عن الحسن بن موسى بهذا السند " ولهم " أي ثواب صلاتهم، وهو يغني عن تكلف توجيه حذفها، وتمسك ابن بطال بظاهر الرواية المحذوفة فزعم أن المراد بالإصابة هنا إصابة الوقت، واستدل بحديث ابن مسعود مرفوعا " لعلكم تدركون أقواما يصلون الصلاة لغير وقتها، فإذا أدركتموهم فصلوا في بيوتكم في الوقت ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة " وهو حديث حسن أخرجه النسائي وغيره، فالتقدير على هذا: فإن أصابوا الوقت وإن أخطؤوا الوقت فلكم يعني الصلاة التي في الوقت. انتهى. وغفل عن الزيادة التي في رواية أحمد فإنها تدل على أن المراد صلاتهم معهم لا عند الانفراد، وكذا أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طرق عن الحسن بن موسى، وقد أخرج ابن حبان حديث أبي هريرة من وجه آخر أصرح في مقصود الترجمة ولفظه " يكون أقوام يصلون الصلاة، فإن أتموا فلكم ولهم " وروى أبو داود من حديث عقبة بن عامر مرفوعا " من أم الناس فأصاب الوقت فله ولهم". وفي رواية أحمد في هذا الحديث " فإن صلوا الصلاة لوقتها وأتموا الركوع والسجود فهي لكم ولهم " فهذا يبين أن المراد ما هو أعم من ترك إصابة الوقت، قال ابن المنذر: هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الإمام إذا فسدت فسدت صلاة من خلفه. قوله: (وإن أخطؤوا) أي ارتكبوا الخطيئة، ولم يرد به الخطأ المقابل للعمد لأنه لا إثم فيه. قال المهلب: فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه. ووجه غيره قوله إذا خيف منه بأن الفاجر إنما يؤم إذا كان صاحب شوكة. وقال البغوي في شرح السنة: فيه دليل على أنه إذا صلى بقوم محدثا أنه تصح صلاة المأمومين وعليه الإعادة. واستدل به غيره على أعم من ذلك وهو صحة الائتمام بمن يخل بشيء من الصلاة ركنا كان أو غيره إذا أتم المأموم، وهو عند الشافعية بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه، والأصح عندهم صحة الاقتداء بمن علم أنه ترك واجبا. ومنهم من استدل به على الجواز مطلقا بناء على أن المراد بالخطأ ما يقابل العمد، قال: ومحل الخلاف في الأمور الاجتهادية كمن يصلي خلف من لا يرى قراءة البسملة ولا أنها من أركان القراءة ولا أنها آية من الفاتحة بل يرى أن الفاتحة تجزئ بدونها قال: فإن صلاة المأموم تصح إذا قرأ هو البسملة لأن غاية حال الإمام في هذه الحالة أن يكون أخطأ. وقد دل الحديث على أن خطأ الإمام لا يؤثر في صحة صلاة المأموم إذا أصاب. (تنبيه) : حديث الباب من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وفيه مقال، وقد ذكرنا له شاهدا عند ابن حبان، وروى الشافعي معناه من طريق صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ " يأتي قوم فيصلون لكم، فإن أتموا كان لهم ولكم، وإن نقصوا كان عليهم ولكم". *3* وَقَالَ الْحَسَنُ صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ الشرح: قوله: (باب إمامة المفتون) أي الذي دخل في الفتنة فخرج على الإمام، ومنهم من فسره بما هو أعم من ذلك. قوله: (والمبتدع) أي من اعتقد شيئا مما يخالف أهل السنة والجماعة. قوله: (وقال الحسن صل وعليه بدعته) وصله سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن هشام بن حسان أن الحسن سئل عن الصلاة خلف صاحب البدعة فقال الحسن " صل خلفه وعليه بدعته". الحديث: قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ فَقَالَ الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ قَالَ الزُّهْرِيُّ لَا نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا الشرح: قوله: (وقال لنا محمد بن يوسف) هو الفريابي، قيل عبر بهذه الصيغة لأنه مما أخذه من شيخه في المذاكرة فلم يقل فيه حدثنا، وقيل إن ذلك مما تحمله بالإجازة أو المناولة أو العرض، وقيل: هو متصل من حيث اللفظ منقطع من حيث المعنى. والذي ظهر لي بالاستقراء خلاف ذلك، وهو أنه متصل لكنه لا يعبر بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن موقوفا أو كان فيه راو ليس على شرطه، والذي هنا من قبيل الأول، وقد وصله الإسماعيلي من رواية محمد بن يحيى قال: حدثنا محمد بن يوسف الفريابي. قوله: (عن حميد بن عبد الرحمن) أي ابن عوف. وفي رواية الإسماعيلي " أخبرني حميد". وأخرجه الإسماعيلي من طريق أخرى عن الأوزاعي، وخالفه يونس بن يزيد فقال: عن الزهري عن عروة أخرجه الإسماعيلي أيضا، وكذلك رواه معمر عن الزهري أخرجه عمر بن شبة في " كتاب مقتل عثمان " عن غندر عنه، ويحتمل أن يكون للزهري فيه شيخان. قوله: (عن عبيد الله بن عدي) في رواية ابن المبارك عن الأوزاعي عند الإسماعيلي وأبي نعيم " حدثني عبيد الله بن عدي بن الخيار من بني نوفل بن عبد مناف " وعبيد الله المذكور تابعي كبير معدود في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان عثمان من أقارب أمه كما سيأتي في موضعه. قوله: (إنك إمام عامة) أي جماعة. وفي رواية يونس " وأنت الإمام " أي الأعظم. قوله: (ونزل بك ما نرى) أي من الحصار. قوله: (ويصلي لنا) أي يؤمنا. قوله: (إمام فتنة) أي رئيس فتنة، واختلف في المشار إليه بذلك فقيل: هو عبد الرحمن بن عديس البلوى أحد رءوس المصريين الذين حصروا عثمان، قاله ابن وضاح فيما نقله عنه ابن عبد البر وغيره. وقاله ابن الجوزي وزاد: إن كنانة بن بشر أحد رءوسهم صلى بالناس أيضا. قلت: وهو المراد هنا، فإن سيف بن عمر روى حديث الباب في " كتاب الفتوح " من طريق أخرى عن الزهري بسنده فقال فيه " دخلت على عثمان وهو محصور وكنانة يصلي بالناس فقلت كيف ترى " الحديث. وقد صلى بالناس يوم حصر عثمان أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري لكن بإذن عثمان، ورواه عمر بن شبة بسند صحيح، ورواه ابن المديني من طريق أبي هريرة. وكذلك صلى بهم علي بن أبي طالب فيما رواه إسماعيل الخطي في " تاريخ بغداد " من رواية ثعلبة بن يزيد الحماني قال: فلما كان يوم عيد الأضحى جاء علي فصلى بالناس. وقال ابن المبارك فيما رواه الحسن الحلواني: لم يصل بهم غيرها. وقال غيره: صلى بهم عدة صلوات وصلى بهم أيضا سهل بن حنيف، رواه عمر بن شبة بإسناد قوى. وقيل صلى بهم أيضا أبو أيوب الأنصاري وطلحة بن عبيد الله، وليس واحد من هؤلاء مرادا بقوله إمام فتنة. وقال الداودي: معنى قوله " إمام فتنة " أي إمام وقت فتنة، وعلى هذا لا اختصاص له بالخارجي. قال: ويدل على صحة ذلك أن عثمان لم يذكر الذي أمهم بمكروه بل ذكر أن فعله أحسن الأعمال. انتهى. وهذا مغاير لمراد المصنف من ترجمته، ولو كان كما قال لم يكن قوله " ونتحرج " مناسبا. قوله: (ونتحرج) في رواية ابن المبارك " وأنا لنتحرج من الصلاة معه " والتحرج التأثم، أي نخاف الوقوع في الإثم، وأصل الحرج الضيق، ثم استعمل للإثم. لأنه يضيق على صاحبه. قوله: (فقال الصلاة أحسن) في رواية ابن المبارك " أن الصلاة أحسن " وفي رواية معقل بن زياد عن الأوزاعي عند الإسماعيلي " من أحسن". قوله: (فإذا أحسن الناس فأحسن) ظاهره أنه رخص له في الصلاة معهم كأنه يقول لا يضرك كونه مفتونا، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه واترك ما افتتن به، وهو المطابق لسياق الباب، وهو الذي فهمه الداودي حتى احتاج إلى تقدير حذف في قوله إمام فتنة، وخالف ابن المنير فقال: يحتمل أن يكون رأى أن الصلاة خلفه لا تصح فحاد عن الجواب بقوله إن الصلاة أحسن، لأن الصلاة التي هي أحسن هي الصلاة الصحيحة، وصلاة الخارجي غير صحيحة لأنه إما كافر أو فاسق. انتهى. وهذا قاله نصرة لمذهبه في عدم صحة الصلاة خلف الفاسق، وفيه نظر لأن سيفا روى في الفتوح عن سهل بن يوسف الأنصاري عن أبيه قال: كره الناس الصلاة خلف الذين حصروا عثمان إلا عثمان فإنه قال: من دعا إلى الصلاة فأجيبوه. انتهى. فهذا صريح في أن مقصوده بقوله " الصلاة أحسن " الإشارة إلى الإذن بالصلاة خلفه، وفيه تأييد لما فهمه المصنف من قوله إمام فتنة، وروى سعيد بن منصور من طريق مكحول قال: قالوا لعثمان إنا نتحرج أن نصلي خلف هؤلاء الذين حصروك، فذكر نحو حديث الزهري. وهذا منقطع إلا أنه اعتضد. قوله: (وإذا أساؤوا فاجتنب) فيه تحذير من الفتنة والدخول فيها ومن جميع ما ينكر من قول أو فعل أو اعتقاد، وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة ولا سيما في زمن الفتنة لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الجماعة، وفيه رد على زعم أن الجمعة لا يجزئ أن تقام بغير إذن الإمام. قوله: (وقال الزبيدي) بضم الزاي هو محمد بن الوليد. قوله: (المخنث) رويناه بكسر النون وفتحها، فالأول المراد به من فيه تكسر وتثن وتشبه بالنساء. والثاني المراد به من يؤتي، وبه جزم أبو عبد الملك فيما حكاه ابن التين محتجا بأن الأول لا مانع من الصلاة خلفه إذا كان ذلك أصل خلقته. ورد بأن المراد من يتعمد ذلك فيتشبه بالنساء فإن ذلك بدعة قبيحة، ولهذا جوز الداودي أن يكون كل منهما مرادا. قال ابن بطال: ذكر البخاري هذه المسألة هنا لأن المخنث مفتتن في طريقته. قوله: (إلا من ضرورة) أي بأن يكون ذا شوكة أو من جهته فلا تعطل الجماعة بسببه، وقد رواه معمر عن الزهري بغير قيد أخرجه عبد الرزاق عنه ولفظه " قلت: فالمخنث؟ قال: لا ولا كرامة، لا يؤتم به " وهو محمول على حالة الاختيار. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن أبان) هو البلخي مستملى وكيع، وقيل الواسطي وهو محتمل لكن لم نجد للواسطي رواية عن غندر بخلاف البلخي، وقد تقدم عنه بموضع آخر في المواقيت وهذا جميع ما أخرج عنه البخاري. قوله: (اسمع وأطع) تقدم الكلام عليه قبل بباب، قال ابن المنير: وجه دخوله في هذا الباب أن الصفة المذكورة إنما توجد غالبا في عجمي حديث عهد بالإسلام لا يخلو من جهل بدينه، وما يخلو من هذه صفته ارتكاب البدعة، ولو لم يكن إلا افتتانه بنفسه حتى تقدم للإمامة وليس من أهلها. *3* الشرح: قوله: (باب يقوم) أي المأموم (عن يمين الإمام بحذائه) بكسر المهملة وذال معجمة بعدها مدة، أي بجنبه، فأخرج بذلك من كان خلفه أو مائلا عنه. و قوله: (سواء) أخرج به من كان إلى جنبه لكن على بعد عنه، كذا قال الزين بن المنير، والذي يظهر أن قوله بحذائه يخرج هذا أيضا. وقوله سواء أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي انتزاع هذا من الحديث الذي أورده بعد. وقد قال أصحابنا: يستحب أن يقف المأموم دونه قليلا، وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه، فقد تقدم في الطهارة من رواية مخرمة عن كريب عن ابن عباس بلفظ " فقمت إلى جنبه " وظاهره المساواة. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس نحوا من هذه القصة، وعن ابن جريج قال قلت لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقه الأيمن. قلت: أيحاذى به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم. قلت: أتحب أن يساويه حتى لا تكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبد الله بن عتبة ابن مسعود قال " دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح، فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه". قوله: (إذا كانا) أي إماما ومأموما، بخلاف ما إذا كانا مأمومين مع إمام فلهما حكم آخر. (تنبيه) : هكذا في جميع الروايات " باب " بالتنوين " يقوم الخ"، وأورده الزين بن المنير بلفظ " باب من يقوم " بالإضافة وزيادة من، وشرحه على ذلك، وتردد بين كونها موصولة أو استفهامية ثم أطال في حكمة ذلك وأن سببه كون المسألة مختلفا فيها. والواقع أن من محذوفه والسياق ظاهر في أن المصنف جازم بحكم المسألة لا متردد والله أعلم. وقد نقل بعضهم الاتفاق على أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام إلا النخعي فقال " إذا كان الإمام ورجل قام الرجل خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه " أخرجه سعيد بن منصور، ووجهه بعضهم بأن الإمام مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف المأموم حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حسن لكنه مخالف للنص، وهو قياس فاسد ثم ظهر لي أن إبراهيم إنما كان يقول بذلك حيث يظن ظنا قويا مجيء ثان، وقد روى سعيد بن منصور أيضا عنه قال " ربما قمت خلف الأسود وحدي حتى يجيء المؤذن " وذكر البيهقي أنه يستفاد من حديث الباب امتناع تقديم المأموم على الإمام خلافا لمالك، لما في رواية مسلم " فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه " وفيه نظر. *3* الشرح: قوله: (باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام الخ) وجه الدلالة من حديث ابن عباس المذكور أنه صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاة ابن عباس مع كونه قام عن يساره أولا، وعن أحمد تبطل لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقره على ذلك، والأول هو قول الجمهور، بل قال سعيد بن المسيب: إن موقف المأموم الواحد يكون عن يسار الإمام، ولم يتابع على ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ ثُمَّ أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَخَرَجَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قَالَ عَمْرٌو فَحَدَّثْتُ بِهِ بُكَيْرًا فَقَالَ حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ بِذَلِكَ الشرح: قوله: (حدثنا أحمد) لم أره منسوبا في شيء من الروايات، لكن جزم أبو نعيم في المستخرج بأنه ابن صالح وأخرجه من طريقه. قوله: (عمرو) هو ابن الحارث المصري، وكذا وقع عند أبي نعيم. قوله: (عن عبد ربه) بفتح الراء وتشديد الموحدة وهو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين مدنيون على نسق. قوله: (نمت) في رواية الكشميهني " بت". قوله: (فأخذني فجعلني) قد تقدم أنه أداره من خلفه، واستدل به على أن مثل ذلك من العمل لا يفسد الصلاة كما سيأتي. قوله: (قال عمرو) أي ابن الحارث المذكور بالإسناد المذكور إليه، ووهم من زعم أنه من تعليق البخاري، فقد ساقه أبو نعيم مثل سياقه، وبكير المذكور في هذا هو ابن عبد الله بن الأشج، واستفاد عمرو بن الحارث بهذه الرواية عنه العلو برجل. *3* الشرح: قوله: (باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم الخ) لم يجزم يحكم المسألة لما فيه من الاحتمال، لأنه ليس في حديث ابن عباس التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو الإمامة، كما أنه ليس فيه أنه نوى لا في ابتداء صلاته ولا بعد أن قام ابن عباس فصلى معه، لكن في إيقافه إياه منه موقف المأموم ما يشعر بالثاني، وأما الأول فالأصل عدمه، وهذه المسألة مختلف فيها، والأصح عند الشافعية لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الإمام الإمامة، واستدل ابن المنذر أيضا بحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في شهر رمضان قال " فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطا، فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم بنا تجوز في صلاته " الحديث، وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء، وائتموا هم به وأقرهم. وهو حديث صحيح أخرجه مسلم وعلقه البخاري كما سيأتي في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى. وذهب أحمد إلى التفرقة بين النافلة والفريضة فشرط أن ينوي في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر لحديث أبي سعيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه " أخرجه أبو داود وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ الشرح: قوله: (عن عبد الله بن سعيد بن جبير) هو من أقران أيوب الراوي عنه، ورجال الإسناد كلهم بصريون، وسيأتي الكلام على بقية فوائد حديث ابن عباس المذكور في هذه الأبواب الثلاثة تاما في كتاب الوتر إن شاء الله تعالى. *3* وَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ فَخَرَجَ فَصَلَّى الشرح: قوله: (باب إذا طول الإمام وكان للرجل) أي المأموم (حاجة فخرج وصلى) وللكشميهني " فصلى " بالفاء، وهذه الترجمة عكس، التي قبلها، لأن في الأولى جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة، وفي الثانية جواز قطع الائتمام بعد الدخول فيه، وأما قوله في الترجمة " فخرج " فيحتمل أنه خرج من القدوة، أو من الصلاة رأسا، أو من المسجد، قال ابن رشيد: الظاهر أن المراد خرج إلى منزله فصلى فيه، وهو ظاهر قوله في الحديث " فانصرف الرجل". قال: وكان سبب ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يصلي " أصلاتان معا " كما تقدم. قلت: وليس الواقع كذلك، فإن في رواية النسائي " فانصرف الرجل فصلى في ناحية المسجد " وهذا يحتمل أن يكون قطع الصلاة أو القدوة، لكن في مسلم " فانحرف الرجل فسلم ثم صلى وحده". واعلم أن هذا الحديث رواه عن جابر عمرو بن دينار ومحارب بن دثار وأبو الزبير وعبيد الله بن مقسم، فرواية عمرو للمصنف هنا عن شعبة وفي الأدب عن سليم بن حيان ولمسلم عن ابن عيينة ثلاثتهم عنه، ورواية محارب تأتي بعد بابين، وهي عند النسائي مقرونة بأبي صالح، ورواية أبي الزبير عند مسلم، ورواية عبيد الله عند ابن خزيمة، وله طرق أخرى غير هذه سأذكر ما يحتاج إليه منها معزوا، وإنما قدمت ذكر هذه لتسهل الحوالة عليها. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ الشرح: قوله: (حدثنا مسلم) هو ابن إبراهيم، والظاهر أن روايته عن شعبة مختصرة كما هنا وكذلك أخرجها البيهقي من طريق محمد بن أيوب الرازي عنه. وقال الكرماني: الظاهر من قوله " فصلى العشاء الخ " داخل تحت الطريق الأولى، وكان الحامل له على ذلك أنها لو خلت عن ذلك لم تطابق الترجمة ظاهرا. لكن لقائل أن يقول: إن مراد البخاري بذلك الإشارة إلى أصل الحديث على عادته، واستفاد بالطريق الأولى علو الإسناد، كما أن في الطريق الثانية فائدة التصريح بسماع عمرو من جابر. قوله: (يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم) زاد سلم من رواية منصور عن عمرو " عشاء الآخرة " فكأن العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين. قوله (ثم يرجع فيؤم قومه) في رواية منصور المذكورة " فيصلي بهم تلك الصلاة " وللمصنف في الأدب " فيصلي بهم الصلاة " أي المذكورة، وفي هذا رد على من زعم أن المراد أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي صلى الله عليه وسلم غير الصلاة التي كان يصليها بقومه. وفي رواية ابن عيينة " فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه فأمهم " وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة " ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بهم " ولا مخالفة فيه لأن قومه هم بنو سلمة. وفي رواية الشافعي عنه " ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة " ولأحمد " ثم يرجع فيؤمنا". الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَكَأَنَّ مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ أَوْ قَالَ فَاتِنًا فَاتِنًا فَاتِنًا وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ قَالَ عَمْرٌو لَا أَحْفَظُهُمَا الشرح: (فصلى العشاء) كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية لأبي عوانة والطحاوي من طريق محارب " صلى بأصحابه المغرب " وكذا لعبد الرزاق من رواية أبي الزبير، فإن حمل على تعدد القصة كما سيأتي أو على أن المراد بالمغرب العشاء مجازا تم، وإلا فما في الصحيح أصح. قوله: (فقرأ بالبقرة) استدل به على من يكره أن يقول البقرة بل سورة البقرة، لكن في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه " فقرأ سورة البقرة " ولمسلم عن ابن عيينة نحوه، وللمصنف في الأدب " فقرأ بهم البقرة " فالظاهر أن ذلك من تصرفات الرواة، والمراد أنه ابتدأ في قراءتها، وبه صرح مسلم ولفظه " فافتتح سورة البقرة " وفي رواية محارب " فقرأ بسورة البقرة أو النساء " على الشك، وللسراج من رواية مسعر عن محارب " فقرأ بالبقرة والنساء " كذا رأيته بخط الزكي البرزالي بالواو، فإن كان ضبطه احتمل أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة وفي الثانية بالنساء، ووقع عند أحمد من حديث بريدة بإسناد قوى " فقرأ اقتربت الساعة " وهي شاذة إلا إن حمل على التعدد، ولم يقع في شيء من الطرق المتقدمة تسمية هذا الرجل، لكن روى أبو داود الطيالسي في مسنده والبزار من طريقه عن طالب بن حبيب عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه قال " مر حزم بن أبي بن كعب بمعاذ بن جبل وهو يصلي بقومه صلاة العتمة فافتتح بسورة طويلة ومع حزم ناضح له " الحديث. قال البزار: لا نعلم أحدا سماه عن جابر إلا ابن جابر ا ه. وقد رواه أبو داود في السنن من وجه آخر عن طالب فجعله عن ابن جابر عن حزم صاحب القصة، وابن جابر لم يدرك حزما. ووقع عنده " صلاة المغرب " وهو نحو ما تقدم من الاختلاف في رواية محارب، ورواه ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر فسماه حازما وكأنه صحفه أخرجه ابن شاهين من طريقه، ورواه أحمد والنسائي وأبو يعلى وابن السكن بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال " كان معاذ يؤم قومه فدخل حرام وهو يريد أن يسقي نخله " الحديث كذا فيه براء بعدها ألف، وظن بعضهم أنه حرام بن ملحان خال أنس وبذلك جزم الخطيب في المبهمات، لكن لم أره منسوبا في الرواية، ويحتمل أن يكون تصحيفا من حزم فتجتمع هذه الروايات، وإلى ذلك يومئ صنيع ابن عبد البر فإنه ذكر في الصحابة حرام بن أبي بن كعب وذكر له. هذه القصة، وعزا تسميته لرواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس، ولم أقف في رواية عبد العزيز على تسمية أبيه وكأنه بنى على أن اسمه تصحف والأب واحد، سماه جابر ولم يسمه أنس، وجاء في تسميته قول آخر أخرجه أحمد أيضا من رواية معاذ بن رفاعة عن رجل من بني سلمة يقال له سليم أنه " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، إنا نظل في أعمالنا فنأتي حين نمسي فنصلي، فيأتي معاذ بن جبل فينادي بالصلاة فنأتيه فيطول علينا " الحديث، وفيه أنه استشهد بأحد، وهذا مرسل لأن معاذ بن رفاعة لم يدركه، وقد رواه الطحاوي والطبراني من هذا الوجه عن معاذ ابن رفاعة أن رجلا من بني سلمة فذكره مرسلا، ورواه البزار من وجه آخر عن جابر وسماه سليما أيضا، لكن وقع عند ابن حزم من هذا الوجه أن اسمه سلم بفتح أوله وسكون اللام وكأنه تصحيف والله أعلم. وجمع بعضهم بين هذا الاختلاف بأنهما واقعتان، وأيد ذلك بالاختلاف في الصلاة هل هي العشاء أو المغرب وبالاختلاف في السورة هل هي البقرة أو اقتربت، وبالاختلاف في عذر الرجل هل هو لأجل التطويل فقط لكونه جاء من العمل وهو تعبان أو لكونه أراد أن يسقي نخله إذ ذاك أو لكونه خاف على الماء في النخل كما في حديث بريدة. واستشكل هذا الجمع لأنه لا يظن بمعاذ أنه صلى الله عليه وسلم يأمره بالتخفيف ثم يعود إلى التطويل، ويجاب عن ذلك باحتمال أن يكون قرأ أولا بالبقرة فلما نهاه قرأ اقتربت وهي طويلة بالنسبة إلى السور التي أمره أن يقرأ بها كما سيأتي، ويحتمل أن يكون النهي أولا وقع لما يخشى من تنفير بعض من يدخل في الإسلام، ثم لما اطمأنت نفوسهم بالإسلام ظن أن المانع زال فقرأ باقتربت لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فصادف صاحب الشغل، وجمع النووي باحتمال أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة فانصرف رجل، ثم قرأ اقتربت في الثانية فانصرف آخر. ووقع في رواية أبي الزبير عند مسلم " فانطلق رجل منا " وهذا يدل على أنه كان من بني سلمة، ويقوى رواية من سماه سليما، والله أعلم. قوله: (فانصرف الرجل) اللام فيه للعهد الذهني، ويحتمل أن يراد به الجنس، فكأنه قال واحد من الرجال، لأن المعرف تعريف الجنس كالنكرة في مؤداه. ووقع في رواية الإسماعيلي " فقام رجل فانصرف " وفي رواية سليم بن حيان " فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة " ولابن عيينة عند مسلم " فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده " وهو ظاهر في أنه قطع الصلاة، لكن ذكر البيهقي أن محمد بن عباد شيخ مسلم تفرد عن ابن عيينة بقوله " ثم سلم"، وأن الحفاظ من أصحاب ابن عيينة وكذا من أصحاب شيخه عمرو بن دينار وكذا من أصحاب جابر لم يذكروا السلام، وكأنه فهم أن هذه اللفظة تدل على أن الرجل قطع الصلاة لأن السلام يتحلل به من الصلاة، وسائر الروايات تدل على أنه قطع القدوة فقط ولم يخرج من الصلاة بل استمر فيها منفردا. قال الرافعي في " شرح المسند " في الكلام على رواية الشافعي عن ابن عيينة في هذا الحديث " فتنحى رجل من خلفه فصلى وحده". هذا يحتمل من جهة اللفظ أنه قطع الصلاة وتنحى عن موضع صلاته واستأنفها لنفسه، لكنه غير محمول عليه لأن الفرض لا يقطع بعد الشروع فيه. انتهى. ولهذا استدل به الشافعية على أن للمأموم أن يقطع القدوة ويتم صلاته منفردا. ونازع النووي فيه فقال: لا دلالة فيه لأنه ليس فيه أنه فارقه وبنى على صلاته، بل في الرواية التي فيها أنه سلم دليل على أنه قطع الصلاة من أصلها ثم استأنفها، فيدل على جواز قطع الصلاة وإبطالها لعذر. قوله: (فكأن معاذ ينال منه) وللمستملى " تناول منه " وللكشميهني " فكأن - بهمزة ونون مشددة - معاذا تناول منه " والأولى تدل على كثرة ذلك منه بخلاف الثانية، ومعنى ينال منه أو تناوله: ذكره بسوء، وقد فسره في رواية سليم بن حيان ولفظه " فبلغ ذلك معاذا فقال إنه منافق " وكذا لأبي الزبير، ولابن عيينة " فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا، والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه " وكأن معاذا قال ذلك أولا ثم قاله أصحاب معاذ للرجل. قوله: (فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم) بين ابن عيينة في روايته وكذا محارب وأبو الزبير أنه الذي جاء فاشتكى من معاذ. وفي رواية النسائي " فقال معاذ: لئن أصبحت لأذكرن ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي صنعت؟ فقال: يا رسول الله عملت على ناضح لي " فذكر الحديث، وكأن معاذل سبقه بالشكوى، فلما أرسل إليه جاء فاشتكى من معاذ. قوله: (فقال فتان) في رواية ابن عيينة " أفتان أنت " زاد محارب " ثلاثا". قوله: (أو قال فاتنا) شك من الراوي، وهو منصوب على أنه خبر كان المقدرة. وفي رواية أبي الزبير " أتريد أن تكون فاتنا " ولأحمد في حديث معاذ بن رفاعة المتقدم " يا معاذ لا تكن فاتنا " وزاد في حديث أنس " لا تطول بهم " ومعنى الفتنة هاهنا أن التطويل يكون سببا لخروجهم من الصلاة وللتكره للصلاة في الجماعة، وروى البيهقي في الشعب بإسناد صحيح عن عمر قال " لا تبغضوا إلى الله عباده صلى الله عليه وسلم يكون أحدكم إماما فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض إليهم ما هم فيه". وقال الداودي: يحتمل أن يريد بقوله " فتان " أي معذب لأنه عذبهم بالتطويل، ومنه قول الله تعالى قوله: (وأمره بسورتين من أوسط المفصل، قال عمرو) أي ابن دينار (لا أحفظهما) وكأنه قال ذلك في حال تحديثه لشعبة، وإلا ففي رواية سليم بن حيان عن عمرو " اقرأ والشمس وضحاها وسبح اسم ربك الأعلى ونحوها". وقال في رواية ابن عيينة عند مسلم " اقرأ بكذا واقرأ بكذا " قال ابن عيينة: فقلت لعمرو إن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال " اقرأ بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى وبسبح اسم ربك الأعلى " فقال عمرو نحو هذا، وجزم بذلك محارب في حديثه عن جابر. وفي رواية الليث عن أبي الزبير عند مسلم مع الثلاثة " اقرأ باسم ربك " زاد ابن جريج عن أبي الزبير " والضحى " أخرجه عبد الرزاق. وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة مع الثلاثة الأول " والسماء ذات البروج والسماء والطارق " وفي المراد بالمفصل أقوال ستأتي في فضائل القرآن أصحها أنه من أول ق إلى آخر القرآن. قوله: (أوسط) يحتمل أن يريد به المتوسط والسور التي مثل بها من قصار المتوسط، ويحتمل أن يريد به المعتدل أي المناسب للحال من المفصل، والله أعلم. واستدل بهذا الحديث على صحة اقتداء المفترض بالمتنفل، بناء على أن معاذا كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل، ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدار قطني وغيرهم من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب زاد " هي له تطوع ولهم فريضة " وهو حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه فانتفت تهمة تدليسه، فقول ابن الجوزي إنه لا يصح مردود، وتعليل الطحاوي له بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج ولم يذكر هذه الزيادة ليس بقادح في صحته، لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة وأقدم أخذا عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عددا فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها. وأما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة فجوابه أن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضموما إلى الحديث فهو منه ولا سيما إذا روى من وجهين، والأمر هنا كذلك، فإن الشافعي أخرجها من وجه آخر عن جابر متابعا لعمرو بن دينار عنه، وقول الطحاوي هو ظن من جابر مردود لأن جابرا كان ممن يصلي مع معاذ فهو محمول على أنه سمع ذلك منه ولا يظن بجابر أنه يخبر عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه. وأما احتجاج أصحابنا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " فليس بجيد، لأن حاصله النهي عن التلبس بصلاة غير التي أقيمت من غير تعرض لنية فرض أو نفل، ولو تعينت نية الفريضة لامتنع على معاذ أن يصلي الثانية بقومه لأنها ليست حينئذ فرضا له، وكذلك قول بعض أصحابنا لا يظن بمعاذ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمة في المسجد الذي هو من أفضل المساجد، فإنه وإن كان فيه نوع ترجيح لكن للمخالف أن يقول: إذا كان ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتنع أن يحصل له الفضل بالاتباع، وكذلك قول الخطابي إن العشاء في قوله " كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء " حقيقة في المفروضة، فلا يقال كان ينوي بها التطوع لأن لمخالفه أن يقول: هذا لا ينافي أن ينوي بها التنفل. وأما قول ابن حزم: إن المخالفين لا يجيزون لمن عليه فرض إذا أقيم أن يصليه متطوعا فكيف ينسبون إلى معاذ ما لا يجوز عندهم؟ فهذا إن كان كما قال نقص قوي، وأسلم الأجوبة التمسك بالزيادة المتقدمة. وأما قول الطحاوي: لا حجة فيها لأنها لم تكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقريره، فجوابه أنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة وفيهم ثلاثون عقبيا وأربعون بدريا، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبو الدرداء وأنس وغيرهم. وأما قول الطحاوي: لو سلمنا جميع ذلك لم يكن فيه حجة لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلي مرتين، أي فيكون منسوخا، فقد تعقبه ابن دقيق العيد بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال وهو لا يسوغ، وبأنه يلزمه إقامة الدليل على ما ادعاه من إعادة الفريضة ا ه. وكأنه لم يقف على كتابه فإنه قد ساق فيه دليل ذلك وهو حديث ابن عمر رفعه " لا تصلوا الصلاة في اليوم مرتين " ومن وجه آخر مرسل " إن أهل العالية كانوا يصلون في بيوتهم ثم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فنهاهم " ففي الاستدلال بذلك على تقدير صحته نظر، لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوها مرتين على أنها فريضة، وبذلك جزم البيهقي جمعا بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ، لم يكن بعيدا، ولا يقال القصة قديمة لأن صاحبها استشهد بأحد لأنا نقول: كانت أحد في أواخر الثالثة فلا مانع أن يكون النهي في الأولى والإذن في الثالثة مثلا، وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين لم يصليا معه " إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها نافلة " أخرجه أصحاب السنن من حديث يزيد بن الأسود العامري وصححه ابن خزيمة وغيره، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على الجواز أيضا أمره صلى الله عليه وسلم لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها أن " صلوها في بيوتكم في الوقت ثم اجعلوها معهم نافلة". وأما استدلال الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم نهي معاذا عن ذلك بقوله في حديث سليم بن الحارث " إما أن تصلي معي وإما أن تخفف بقومك " ودعواه أن معناه إما أن تصلي معي ولا تصل بقومك وإما أن تخفف بقومك ولا تصل معي، ففيه نظر لأن لمخالفه أن يقول: بل التقدير إما أن تصلي معي فقط إذا لم تخفف وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي، وهو أولى من تقديره، لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف لأنه هو المسئول عنه المتنازع فيه، وأما تقوية بعضهم بكونه منسوخا بأن صلاة الخوف وقعت مرارا على صفة فيها مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لصلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم مرتين على وجه لا تقع فيه منافاة، فلما لم يفعل دل ذلك على المنع، فجوابه أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف مرتين كما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة صريحا، ولمسلم عن جابر نحوه، وأما صلاته بهم على نوع من المخالفة فلبيان الجواز. وأما قول بعضهم كان فعل معاذ للضرورة لقلة القراء في ذلك الوقت فهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد، لأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة كان حافظوه كثيرا، وما زاد لا يكون سببا لارتكاب أمر ممنوع منه شرعا في الصلاة. وفي حديث الباب من الفوائد أيضا استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وأما من قال لا يكره التطويل إذا علم رضاء المأمومين فيشكل عليه أن الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة كما في حديث الباب، فعلى هذا يكره التطويل مطلقا إلا إذا فرض في مصل بقوم محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم. وفيه أن الحاجة من أمور الدنيا عذر في تخفيف الصلاة، وجواز إعادة الواحدة في اليوم الواحد مرتين صلى الله عليه وسلم وجواز خروج المأموم من الصلاة لعذر، وأما بغير عذر فاستدل به بعضهم وتعقب. وقال ابن المنير: لو كان كذلك لم يكن لأمر الأئمة بالتخفيف فائدة، وفيه نظر لأن فائدة الأمر بالتخفيف المحافظة على صلاة الجماعة، ولا ينافي ذلك جواز الصلاة منفردا، وهذا كما استدل بعضهم بالقصة على وجوب صلاة الجماعة وفيه نحو هذا النظر. وفيه جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يصلي فيه بالجماعة إذا كان بعذر. وفيه الإنكار بلطف لوقوعه بصورة الاستفهام، ويؤخذ منه تعزيز كل أحد بحسبه، والاكتفاء في التعزيز بالقول، والإنكار في المكروهات، وأما تكراره ثلاثا فللتأكيد، وقد تقدم في العلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه. وفيه اعتذار من وقع منه خطأ في الظاهر، وجواز الوقوع في حق من وقع في محذور ظاهر وإن كان له عذر باطن للتنفير عن فعل ذلك، وأنه لا لوم على من فعل ذلك متأولا، وأن التخلف عن الجماعة من صفة المنافق.
|